تابع للجزء أول من الموضوع
الأساطير المعاصرة :
وإذا كان ذلك هو الموقف الذي تعكسه القصيدة عن الشهادة والشهداء، فإن من أخطر ما فيها أنها تتبنى الأساطير الصهيونية المعاصرة، لتؤسس عليها حلم السلام الموهوم، وتدغدغ عواطف الجندي الصهيوني، لعله يتذكر ما نزل به من ألوان العذاب على يد النازيين، فيرتدع عن إنزال العذاب بالفلسطينيين، ويقتنع ببناء مجتمع السلم، إنها أكبر الأساطير المعاصرة التي يبتز بها الشعوب المغلوبة على أمرها، ويحكمون قبضتهم بها على العالم الغربي منذ أزيد من نصف قرن هي أسطورة الهولوكوست، أسطورة غرف الغاز التي أنشأها النازيون بزعامة هتلر لتحصد أمة اليهود، وقد أثبت الباحثون المنصفون أنه لم يثبت تاريخيا أي وجود لغرف الغاز التي يتحدث عنها اليهود .. إلا أن هؤلاء الباحثين وقعت تصفيتهم إما جسديا وإما إعلاميا ..فـكل من يجرؤ على التشكيك في غرف الغاز يتهم بمعاداة السامية ..وهي تهمة ما بعدها من تهمة .. استطاع اليهود بواسطتها أن يصفوا عددا من خصومهم، ولو بعد ما يقرب من نصف قرن على نهاية الحرب العالمية الثانية.
هي أسطورة، ولكن الصهيونية تهدد من يشكك فيها، لأنها باب واسع من أبواب الارتزاق، وباسمها يقتل الشعب الفلسطيني ويذبح ويهجر.. يرى اليهود أنهم شردوا وقتلوا، فلم لا ينتقمون؟ وليكن الضحية العرب ..وأول من كان عليه رفض هذه الأسطورة هم العرب، ولكننا نراها أسطورة تعيش بيننا، وهاهي تتسرب إلينا في ثوب شعري، تريد من وراء ذلك أن تكتسب بهاء الحقيقة .
فماذا تقول القصيدة؟
[إلى قاتل] لو تأملت وجه الضحيه
وفكرت، كنت تذكرت أمك في غرفة الغاز،
كنت تحررت من حكمة البندقيه
وغيرت رأيك، ما هكذا تستعاد الهويه
يقف الشاعر موقف الواعظ ، مسلّـــما بأسطورة غرفة الغاز التي يتوكأ عليها الصهيوني لممارسة جرائمه البشعة، ويتصور أن الموعظة ستجد سبيلها إلى نفس القاتل، وأن تذكيره بغرف الغاز سيوقظ في نفسه الشعور بالرحمة، وأن ذلك سيجعله يتخلى عن البندقية، والحال أن العكس هو الواقع حالا، فأطفال اليهود في إسرائيل يشحنون بأسطورة غرف الغاز ليزدادوا حقدا على من حولهم .. وليقبلوا بعدما يكبرون على القتل دون قلب، كما يفعل شارون ، فأي هوية تستعاد؟
والأخطر من ذلك أن الوهم يذهب بالشاعر بعيدا ويستولي عليه ويملك عليه أقطار نفسه، حتى أنه ينسج من خياله أسطورة جديدة تجعل الذئب والشاة أخوين، تملكهما الوداعة والمحبة والتسامح :
على طللي ينبت الظل أخضر ،
والذئب يغفو على شعر شاتي
ويحلم مثلي ومثل الملاك
بأن الحياة هنا ..لا هناك ."
هناك أين ؟ في عالم قزحي يتخيله الشاعر مولودا من رحم ذلك الزواج الغريب ما بين الذئب والشاة، الجلاد والضحية ..وهكذا يوجه الحديث (إلى قاتل آخر)، هكذا بصيغة الإبهام، وإن كنا نعرف دائما أن القاتل ليس غير ذلك اليهودي الذي يدعوه الشاعر إلى التريث ليعرف طريق السلام . وهكذا تسوق القصيدة ذلك الحلم الوردي، الذي لن يتجاوز في الحقيقة دائرة الأحلام الكاذبة :
(إلى قاتل آخر ) لو تركت الجنين ثلاثين يوما
إذن، لتغيرت الاحتمالات،
قد ينتهي الاحتلال ولا يتذكر ذاك الرضيع زمان الحصار
فيكبر طفلا معافى
ويدرس في معهد واحد مع إحدى بناتك !
تاريخ آسيا القديم
وقد يقعان معا في شباك الغرام !
وقد ينجبان ابنة (وتكون يهودية بالولادة )
ما ذا فعلت إذن؟
صارت ابنتك الآن أرملة،
والحفيدة صارت يتيمه
فماذا فعلت بأسرتك الشارده
وكيف أصيبت ثلاث حمائم بالطلقة الواحده ؟
ثلاث حمائم إذن ، الطفل العربي (الذي ربما كان محمد الدرة، لو أمهله القاتل ) الذي كان سيكبر معافى، ويدرس في معهد واحد مع ابنة القاتل اليهودية، ليقعا معا قي شباك الغرام، ويتزوجا وينجبا الحمامة الثالثة !
يا له من حلم .
أهكذا إذن تحل مشكلة الاحتلال؟ أهكذا يتحقق السلام المنتظر؟ عودا على بدء نقول ما قاله الشاعر في مطلع القصيدة :
"فالأساطير تطرق أبوابنا حين نحتاجها "
لقد احتجنا إلى سلام، واحتجنا إلى أمن واستقرار، واحتجنا إلى أن نسكن الغد ، فلم نجد غير أن نطرق هذه الأسطورة أبوابنا، فنركن إليها قانعين بالانتظار، رغم أن الانتظار هو عين الحصار، كما يقول الشاعر :
"الحصار هو الانتظار
هو الانتظار على سلم مائل وسط العاصفه "
ومما لا شك فيه أن الركون إلى أسطورة كهذه سلم مائل كثيرا، وسط عاصفة لا تكاد تهدأ.
فكيف توصل الشاعر، رغم كل التناقضات، ورغم كل الحراب المشرعة، والدبابات المدمرة، والصواريخ الغاشمة التي لا تميز بين "الإرهابي" وغيره ، كيف توصل بعد كل هذا إلى أن يقول، مخاطبا المحتلين :
ومن أيها الساهرون ! ألم تتعبوا
من مراقبة الضوء في ملحنا
ومن وهج الورد في جرحنا
ألم تتعبوا أيها الساهرون ؟
واقفون هنا، قاعدون هنا، دائمون هنا، خالدون هنا،
ولنا هدف واحد واحد واحد : أن نكون.
بعده نحن مختلفون على كل شيء:
على صورة العلم الوطني (ستحسن صنعا
لو اخترت يا شعبي الخحي رمز الحمار البسيط ).
ومختلفون على كلمات النشيد الجديد
(ستحسن صنعا لو اخترت أغنية عن زواج الحمام )
....
مختلفون على كل شيء ..لنا هدف واحد : أن نكون
ومن بعده يجد الفرد متسعا لاختيار الهدف "
هل الهدف واحد، وهو أن نكون ؟ أم أن الهدف هو كيف نكون ؟
أن نعيش على هذه الأرض ..أم أن نحيا ؟ والله تعالى يقول عن طائفة من أهل الكتاب وهم اليهود على مذهب كثير من المفسرين :
"ولتجدنـهم أحرص الناس على حياة " هكذا، على حياة..بدون تعريف..فهل هذا هو الهدف ؟ إن كان هو فما أرخصه، وما أيسر السبيل إليه، وآنذاك سنعترف أن لليهودي، قلبا يخشع وعينا تدمع، رغم آلته الجهنمية الموجهة ضد السنابل،
"أما للغبي، كما لليهودي في تاجر البندقيه
قلب وخبز، وعينان تغرورقان ؟"
الأسطورة دائما تغلف نفسها بثوب شفاف، من العبارة الأنيقة، والخيال المتألق، والتصوير الشائق، ولكنها تظل دائما أسطورة من الأساطير ، ويظل الحق وحده قرين الأبدية .
*********
* د.حسن الأمراني في سطور :
-شاعر وأديب من مدينة " وجدة " في المغرب الشقيق .
-رئيس مكتب رابطة الأدب الإسلامي في المغرب .
-رئيس تحرير مجلة " المشكاة " الصادرة عن الرابطة.
-له العشرات من القصائد والمقالات والدراسات في كثير من الصحف والمجلات اليومية والشهرية والفصلية .
-أصدر في الانتفاضة الأولى ديوان/المجد للأطفال والحجارة .
-صدر له ديوان " شرق القدس ..غرب يافا " عن انتفاضة الأقصى .
-له عدد من الدواوين الشعرية الأخرى مثل " قلوب على بركان " كامليات " .