مفهـوم الأدب والفـن لدى توفيـق الحكيم
الجزء الثاني
هذه بعض المنطلقات النظرية حول المسرح لدى توفيق الحكيم. والواقع أن الدارس لكل كتاباته عن هذا الفن يستطيع أن يقف على فيض زاخر من آرائه الخاصة حول سبب اختياره للمسرح الذهني أسلوبا وتوجها فكريا، وكذا حول مساهمته في الكتابة لمسرح العبث، ومحاكاته للغربيين في إنتاج عمل يجمع بين الرواية والمسرح (المسرواية؛ بنك القلق). إضافة إلى ذلك، يمكن أيضا الوقوف على جملة من المحددات والضوابط عـن مفاهيم مسرحيـة مثـل المأسـاوي، والكوميـدي والتجريب والأصالـة وعلاقة المسرح بالفنون الأخرى.
وإذا كانت هذه المحددات والآراء توسع أفق نظريته عن المسرح، فإن أهم ما يجب مراعاته هو اعتقاده الراسخ «بأن القوالب المسرحية والأشكال الفنية هي مجهودات مشتركة واجتهادات إنسانية متداخلة، وأن بنية الفن، شأنها شأن بنية كل جسم، تحتاج في بنائها إلى كافة العناصر الداخلية (أي المحلية) والخارجية (أي المستَنبَتة أو المستعارة).
في هذا الصَّدد، اهتم توفيق الحكيم - رغم تأكيده على استحالة التخلص من القالب المسرحي الغربي - بمراجعة تراكمات الفرجة المصرية الشعبية ومنها ما يقدمه على الخصوص الحكواتيون والمقلدون والمداحون . وبما أن هؤلاء كانوا يعتمدون الملاحم والسير مادة عملهم وتواصلهم مع الجمهور «الذي كان يجد فيها أخصب المتع الفنية»، فقد لمس فيهم «أدواتيين» يستطيع كل واحد منهم أن يقدم للمتفرجين روائع المسرح العالمي، وأن يكسيها طابعا شعبيا رغم انتمائها إلى الثقافة العليا.
لكن هذا الطرح النظري - كما حدده توفيق الحكيم - تعترضه صعوبة كبيرة، كما يقول: هي «إيجاد المقلد الموهوب الذي لا يتقمص الشخصيات كما يفعل الممثل في المسرح، وإنما يرسمها تحت أعيننا رسما واعيا مع احتفاظه بشخصيته الحقيقية شانه شان النحات الذي يباشر عمله أمام ناظريه» [39].
إن هذا الوعي بأهمية تشعيب الثقافة العليا عن طريق اعتماد المقلد الموهوب واستثمار فنياته قد دفع بعض المسرحيين إلى الاسترشاد بنظرية توفيق الحكيم، وإلى تأصيل أعمالهم عبر الاجتهاد النظري الرامي إلى تأسيس صيغة مسرحية عربية تراعي ثنائية الأصالة والمعاصرة.
III - توفيـق الحكيـم والفن التشكيلـي
رغم أن توفيق الحكيم لم يكن رساما، فقد كان شغوفا بفن الرسم وبعوالمه ومجالاته منذ أن كان في باريس «يتردد كل يوم أحَد على متحف "اللوفر" ويقضي في أروقته ست أو سبع ساعات يقف خلالها، بمعدل ساعة، أمام لوحة واحدة» [40]. وإذا كان هذا الافتتان بالفن عموما يرجع إلى تشبعه بالفنون القديمة، ومنها على الخصوص الفرعونية والإغريقية، فإن انشغاله بالفن التشكيلي كان وليد علاقته بشيخ يدعى السيد «هاب» الذي لقنه «مفاتن الفن وفتح بصره على جمال النحت والعمارة والتصوير والآداب القديمة» [41].
انطلاقا من هذا التلقين وما تبعه من زيارات للمتاحف ومناقشات حول الفنون، تفتحت عيناه، ثم عرف كيف يقرأ اللوحة ويعلق عليها اعتمادا على ثقافة فنية واسعة. لهذا، فإذا كان توفيق الحكيم لا يشكل تيارا نظريا جماليا مكتملا في الثقافة التشكيلية العربية (رغم ندرة تمظهر هذا التيار)، فإنه قد ابتكر لنفسه مقاييس ذاتية خولت له «تحقيق استقلالية على مستوى التأمل والتقدير والاستنتاج». إن هذه الاستقلالية هي التي بلورت توجهاته النظرية في مجال التشكيل وأوصلته إلى بعض الطروحات الهامة نشير إلى بعضها فيما يلي:
- الخلـق الفنـي لدى القدمـاء وعند العـرب
في حديثه عن الخلق الفني لدى المثَّال المصري، يرى أن هذا الأخير «له بصيرة غريزية أو مدرَّبة تجعله ينفذ إلى ما وراء الأشكال الظاهرة، والإحاطة بقوانينها المستترة. وبالتالي، فإنه لا يعنيه جمال الجسد ولا جمال الطبيعة من حيث هي شكل ظاهر؛ وإنما تعنيه الفكرة والقوانين الباطنية التي تسيطر على الأشكال، لأنه يشعر بالهندسة اللامنظورة التي تربط كل شيء بكل شيء، كما يشعر بالكل في الجزء والجزء في الكل» [42].
إن هذا الشعور هو، في نظر توفيق الحكيم، أولى علامات الوعي في الخلق والبناء. وهذا ما جعل المثَّال المصري يصور روح الأشكال لا أجسامها كما جعل من الفن المصري «سرا مغلقا» إلى حدود أوائل القرن العشرين، لأن الحضارة التي ينتمي إليها هي حضارة مستقرة تقوم على الزهد والتفكير فيما وراء الحياة (القلب والروح)، كما تقوم على السكون. على عكس الحضارة الإغريقية التي تمارس العقل والمنطق، الشيء الذي أدى إلى أن يكون فنها فنا ماديا يقوم على الحركة (أي الحياة: كما تشهد على ذلك تماثيل الآدميين العارية الأجساد)، كما يقوم على الروح. وهذا ما حوله إلى فن «تجميل للطبيعة إلى حدّ إشعارها بنقصها».
أما بالنسبة للفن العربي، فإنه يقوم على لذة الحس والمادة لأنه نتاج السرعة (اللذة) واللاستقرار. ولأنه كذلك، فقد كانت ركيزته «الزخرفة» التي هي نتاج الحلم باللذة والترف. ولولا الزخرفة لضاع الفن المعماري العربي، لأنها أجمل وأعجب فن خلده التاريخ [43].
وهكذا، فبين عنصري الاستقرار واللاستقرار يتموضع البناء الفني أو ينمحي نهائيا حيث «إن الاستقرار هو أساس التأمل. والتأمل هو الذي يوحد الميثولوجيا والخيال الواسع والتفكير العميق والإحساس بالبناء.
على ضوء هذا التحديد، يرى توفيق الحكيم أن إنجاز العمل الفني الكبير في مجال النحت والتصوير (التشكيل) يفرض على من يزاوله «أن يكون ذا إحساس عميق بالتناسق العام، وأن تكون ركيزته التأمل الطويل والوعي الداخلي للكل في الجزء وللجزء في الكل. إن هذا الامتلاك (الإحساس العميق والوعي الداخلي) هو الذي يخلق الفن العظيم «الذي لا يتحقق في نظر الحكيم إلا عبر اقتران الروح بالمادة، والسكون بالحركة والاستقرار بالقلق والبناء بالزخرف». وهو ما لمسه في فنون الحضارة اليونانية التي تقوم «على صراع بين ديونيزوس رمز الروح والقوى الحفية الشائعة والنشوة، وأبولون رمز الفردية والشخصية المفروزة والوعي» [44].
*
* *
IV - الفـن التشكيلـي وإنجـاز اللوحـة
لا شك أن وراء هذه الآراء مرجعيات ثقافية لأن المطلع على تنظيرات الحكيم في التشكيل عموما يدرك مدى عنايته بخصوصيات هذا الفن وتذوقه بعقلية كلاسيكية وحديثة. يقول في هذا الصدد: «أنا موزع بين الكلاسيك والمودرن (الحديث) لا أستطيع أن أقول مع الثائرين: فليسقط القديم، لأن القديم أيضا جديد علي. فأنا مع هؤلاء وأولئك» [45].
إن هذه المزاوجة بين الفن القديم والحديث هي وليدة قناعة ذاتية: وهي أن التشكيل «هو فن الألوان». وبما أن الفن بمفهومه العام، سواء كان قصة أو شعرا أو موسيقى أو تصويرا، هو في نظره خلق إنساني جميل لا أقل ولا أكثر» [46]، فإن اللوحة «ليست في الحقيقة إلا قصة تمثيلية داخل إطار تقوم فيها الألوان مقام الحوار». أما جوهر إنجازها من لدن الرسام، فإنه «يتطلب الملاحظة والإحساس والتعبير باللون باعتبار هذا الأخير سر خلود اللوحة وإكسير حياتها» [47]. لكن هذه المتطلبات لا تكفي وحدها لتشكيل جمالية العمل الفني ما لم يتحقق معها عنصران أساسيان هما: البنيان أو التراكيب (la Composition) ثم الإيقاع (le Rythme) الذي يعدّ روي اللوحة وتنغيمها [48].
بناء على هذه الفرضيات، يرى توفيق الحكيم أن التشكيل هو «فن حسي لا ذهني» عالمه الضوء والرؤية، والتيقظ لألوان الطبيعة الذي يجعل الفنان «النابض بالحياة متيقظ الحاسة إلى حدّ الوحشية أو متيقظ الروح إلى حدّ الصوفية» [49]. لهذا، لا يجب الاعتقاد بأن اليقظة الحسية أو الروحية في الفن «هي وقف على عصر من العصور، وإنما ترجع أحيانا إلى طبيعة الفنان وحده وحالات نفسه المتغيرة أحيانا أخرى». من هنا، يؤمن توفيق الحكيم بأن «مصادر الفن الحديث تستمد حقها [يقصد مرجعيتها] من الفنون الأولى مباشرة: الشيء الذي جعل تيمة الفن الحديث تنحصر «في محاولة إعادتنا إلى النضارة الفطرية البدائية القائمة على البساطة إلى حدّ التركيز، وعلى استلهام فن الزنوج الذي ترك آثارا واضحة في التصوير الحديث والموسيقى الحديثة والرقص الحديث» [50].
- العيــن ترصـد الألــوان:
إن هذه الاستنتاجات عن الفن التشكيلي هي التي خولت للحكيم قراءة اللوحات عن طريق رصد ما تقوم عليه من تركيب، وخطوط، وألوان، وحركات أجسام إلى درجة أن العمل التشكيلي لم يعد في نظره سوى «نتاج كائن (يقصد الفنان) يعيش في داخله جنبا إلى جانب حيوان وإله». لكن أهم أداة يعتمدها هذا الكائن في عمله هي «العين»، لأن «امتلاءها بالألوان في الحياة والطبيعة والفن شرط لازم في التصوير» [51]. وتلك حقيقة طالما رددها رسامون كبار أمثال ليونارد دفنسي الذي أكد على أن العين - باعتبارها نافذة الروح - هي الطريق الرئيسية التي تمكن ذهننا من تثمين فعل الطبيعة بامتلاء وعظمة» [52].
خلاصــــة:
إذا كان توفيق الحكيم يرفض أن يكون فيلسوفا أو أن تطلق عليه صفة الفيلسوف، فإنه يريد في المقابل أن يكون فنانا، وأن يبلور لنفسه تصورات فنية وفكرية وذلك بطريقة مباشرة. وبما أن الفلسفة، كما يقول، هي نتاج أذهان متعددة لإنتاج فكر واحد، فإنها تختلف، كما يقول، عن الفن الذي هو عمل فردي. لهذا اتخذ من الفن عملا فرديا وتجول في عوالمه كاتبا ومنظرا: «لا يدري أين سيحط به القلم» [53]، ولكنه يدرك أن «الجمـال الفنـي وُلـد كامـلا في قلب الإنسان»، لأن الله «خلقه على صورته وأعطاه الإحساس بالتناسق» [54].
من هنا، يمكن القول بأن تنظيرات توفيق الحكيم عن الأدب والفن لا تتحرك في نطاق قوانين أو قواعد منهجية صارمة. وإنما تقوم على حدوسات وكشوفات فردية تجعله يتجنب السقوط في مهاوي التوثيق والنقل الحرفي لمقولات المنظرين الذين سبقوه.
بتعبير آخر، إن نظريته ترتكز على مفاهيم تصورية ذاتية وتصوغ أسئلتها من فرضيات نابعة من قراءته للتـراث الأدبي والفنـي الغربي، وكذا من اطلاعه على التراث الثقافـي العربي. وهذا ما أدى إلى تعدد منظوراته التي تتقاطع فيها مصادر معرفية متعددة تتراوح بين مفاهيم الكلاسيكية والرومانسيـة والحداثـة الفنيـة وخطابات النقـد التقليـدي والحديـث.
لكن أهم ما يتحكم في نظريته ومنطلقاتها هو الجانب الإنسانوي (Humaniste) الذي يرى ضرورة انشغال الفنان بقضايا الإنسان «ودراسة أسراره وإبرازها بريشة صادقة للعيون والعقول». لهذا اعتبر الأدب «شيئا جميلا. وجنة لا صخب فيها، ومعبدا لا تدخله الأحقاد» [55]. بل وأبعد من ذلك، أطلق على الفنون كلمة «شعر» لاعتقاده أنه «لا يوجد فن عظيم بغير شعر. أي بغير تلك المادة التي تجعل الناس يدركون بالأثر الفني ما لا يدركُونَه بحواسِّهم وملكاتهم».